يأتي الثالث من نوفمبر هذا العام على أهاليمدينة خانيونس لينبش جرحًا لم يندمل منذ ستون عامًا مضت ففي هذا اليوم اعتدت قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة عام 1956 وقامت باحتلاله حتي السابع من مارس/آذار عام1957، وخلال هذه الفترة وقعت إحدى أكبر المجازر التي ارتكبتها العصبات الصهيونية وجيشهاالاحتلالي في تاريخها المشهود له بالاجرام، بدأت أحداث هذه المجزرة حين نفذت قوات جيشالاحتلال عمليات اعتقال واسعة لعدد كبير من سكان القطاع وخصوصًا في مدينتي خانيونس ورفح التي حدثت فيهما عدة مجازر كبيرة للأمنيينمن الاهالي؛ بسبب ما شكله جنوب القطاع من مقاومة مستميته أعاقت تقدم قوات الجيش الإسرائيليلفترة وجعلته أمرًا صعب.
عرف هذا الاعتداء بالعدوان الثلاثي عليمصر، (اسرائيل فرنسا بريطانيا) كان الهدف المعلن من قبل الحكومة الاسرائيلية لهذا الاعتداءهو القضاء على الفدائيين الفلسطينيين في القطاع الذي كان لهم دورًا كبيرًا في مقاومةالاحتلال والهجوم على المستوطنات الصهيونية في اقليم غزة والنقب كمستوطنة عراق المنشيةودير سنيد وعرب السويدات، فضلًا عن وجود كتيبة الفدائيين 141 التي أسسها الضابط المصريمصطفي حافظ وكانت أولى العمليات لهذه الكتيبة في 25-26 آغسطس1955 بإبادة دورية إسرائيليةوتصاعدت وتيرة هذه العمليات وشملت الاراضي المحتلة عام1948 من شمالها الي جنوبها تاركةوراءها 1176 قتيلا صهيونيًا، وهو ما عجزت عنه بعض الحروب العربية الاسرائيلية.
بسبب هذه العمليات صدر تصريح شهير لرئيسالوزراء الاسرائيلي ليفي أشكول “متى أستيقظ صباحا وأرى غزة وقد ابتلعها البحر”” غيرأن الاهداف الغير المعلنة من هذه الاعتداء أي احتلال قطاع غزة 1956 كان هو الانتقاممن أهالي القطاع وإمعان شهوة الانتقام من الفلسطينيين ويدل على هذا كثافة عدد الشهداءوالطريقة التي اتبعوها في المذبحة والتي تدل على دموية جنود الاحتلال وعدم إنسانيتهم أيضًا،ومثالًا على ذلك نذكر قصة الشهيد حسن حافظ البطة الذي كان أحد ضباط الجيش الفلسطيني (اللواء 86 الفلسطيني والذي كان يرابط في القطاعتحت امرة الجيش المصري)
فلما وقع العدوان الثلاثي ولى الضابط حسنالبطة إحدى فصائل حامية خانيونس وأخذ يقاتل اليهود، قتالا مستميتًا كغيره من أفرادلواءه سابق الذكر في خانيونس الذين قاوموا مقاومة مستميته أعاقت تقدم قوات الاحتلاللمدة ستة أيام لم يستجب خلالها الضابط حسن إلى نداء اليهود له بالاستسلام بل ظل يواصلالقتال حتى استشهد أكثر جنوده وأصبح وحده في الميدان فوقع أسيرًا في أيديهم، ولكنهملم يعاملوه معاملة الاسرى بل سحبوه على وجهه حتى ادخلوه منزله وفيه ذبحوه ذبحًا أمامأمه وأبيه وألقوا رأسه في حجر زوجته، وقتلوا أخوه نديد ابن العشرين عامًا رميًا بالرصاصوعدد من الذين كانوا قد احتموا في منزل الشيخ حافظ البطة كونه أحد علماء فلسطين المعروفينوقتذاك.
يزداد المشهد بشاعة بعدم السماح للأهاليبدفن شهدائهم بسبب فرض حظر التجول على المدينة، الأمر الذي دفع الشيخ حافظ لدفنهم فيفناء بيته حتى رفع الحظر عن النساء فقط بعد عدة أيام من فرضه، قامت ابنة الشيخ حافظالبالغة من العمر خمسة عشرة عامًا “نديدة” ومعها عدد من الصبية دون سن الحلم بنقل الجثامين إلى مقبرة الشيخ يوسف في سوقخانيونس، خلال هذه الفترة الوجيزة.
ولما رفع الحظر كليا قام الشيخ حافظ رحمهالله بالتأكد من دفنهم حسب الشريعة الاسلامية. هذه المشهد لم يفارق من كان في البيتمن نساء وصبية توارثه الاجيال ويرووه لجيل بعد جيل من شدة ما ترك من الم في النفوس،تكررت هذه المجازر بصور مشابهة ومختلفة تاركة وراءها في بيوتٍ كثيرةٍ جرحٍ لم يندملمنذ ستين عامًا.
وأما عن المشهد العام للحدث خارج بيت الشيخحافظ البطة فعلى الفور قام الجيش الإسرائيلي بتنفيذ ما سمّي “بأيام التفتيش العام يذكرناهذا المصطلح بمحاكم التفتيش في الاندلس التي استهدفت المسلمين واليهود على حدٍ سواء،حيث كان كل من يلقى القبض عليه من قبل الإسبانيين يقتل، ومن الواضح أن اليهود أعادوا إنتاج الحدث مع الفلسطينيين،فكان يفرض منع التجول علي إحدى المناطق في القطاع، ويأمر السكان بالتجمع في مكان محددوغالبًا ما ينتهي هذا التجمع بمجزرة.
ولقد وقعت عدة مجازر ما بين الثالث إلىالسابع عشر من نوفمبر عام 1956، وفي عدة مناطق من القطاع ومنها مدينة رفح ومخيماتها،ومدينة خانيونس، وضواحيها، تحت حجة البحث عن السلاح والفدائيين والذي قدر “موشي ديانعددهم “ب700 فدائي، إلا أن من قتل كان أضعاف هذا العدد، مما يدل على أن من قتلوا في هذه الفترة كانوا في قبضة الجيش وليس في ميدانالمعركة وما حدث لهم هو عملية إعدام واضحه بحق المعتقلين المدنيين، وأسرى الحرب وقدجرت عملية إعدام جماعي وفردي بغرض تفريغ الأرض من سكانها([1]).
ومن الدلائل الواضحة على إعدام المعتقلينمن الأهالي من قبل أفراد الجيش، ما رواه شهود عيان عاصروا الحدث، في خانيونس ورفح،من قصص منها أن قوات الاحتلال أمروا كل السكانمن الفئة العمرية 15-50 عاماً بالتوجه إلى ساحة القلعة وسط مدينة خانيونس التي تحولتإلى مقر تجمع فيه الأهالي امتثالاً للأمر العسكري عبر مكبرات الصوت، وسلموا أنفسهملقوات الجيش وهم رافعين أيديهم ومفضلين الاعتقال على الموت، حيث كان يصلب الناس إلىالحائط وتطلق عليهم النيران في كل اتجاه وحدث هذا أيضًا في ساحة مستشفى ناصر وساحةالحاووز في معسكر خانيونس([2])، فضلًا عن اقتحام البيوت وقتل الشباب فيها ولم تسلمالمستشفيات ولا المرضى ولا طاقمها الطبي من القتل المتعمد.
وفي 3 نوفمبر نفذت المجازر ضد المعتقلينمن الأهالي في كل من خزاعه وبني سهيلا، ويوم 4 نوفمبر في القرارة وبلدة الزنة (شرقخانيونس)، وفي 5 نوفمبر كانت في المواصى وتل ريدان على شاطئ بحر خانيونس، فضلًا عنوقوع مجزرة في مدينة غزة وضواحيها يوم 10 نوفمبر، و في 12 من نفس الشهر حدثت مذبحةالمدرسة برفح وقتل فيها أعداد كبيرة([3]).
وأما عن المشهد في رفح فقد أمرت قوات الاحتلالكل السكان في المدنية من الفئة العمرية15-50 عاماً بالتوجه إلي “المدرسة الاميرية”، وحذرت كل من يخالف بالعقاب الشديد، عبرمكبرات الصوت، ولم يسمع هذا النداء إلا بعض الناس، بعد ذلك بدأ الجنود يدخلون كل البيوتويجمعون الناس، ويسوقونهم بالنار والقتل وملأت الجثث الطرقات([4]).
وأما من استطاع الوصول إلي المدرسة فقد تعرض للإصابة أو الضرب والإهانة في طريقه إليهاوهناك العديد من لقي حتفه قبل أن يصل المدرسة، ومن نجا ووصل إلي ساحة المدرسة، أُجلسوافي وضع القرفصاء ساعات طويلة، ثم عرضوا للتحقيق علي يد محقق يدعي “ناحمن” ناحمن هذاكان جاسوس إسرائيلي في قطاع غزة ثم اختفي فجأةليظهر في هذا اليوم([5]).
وبعد انتهاء التحقيق كانوا يساقون جماعات،كل جماعة تتكون من4-10 أشخاص لا يعود منهم إلا القليل، حيث كانوا يقتلون، ويلقي بهممن الشباك الخلفي لتحملهم السيارات التي أحضروها خصيصًا لهذا الغرض، حيث تنطلق السياراتبمن فيها إلي مناطق أخرى، غرب رفح وخصوصًا تل زعرب وتل السلطان حيث دفنت الجثث هناك([6])، وتكرر هذا في المعسكرات الوسطى وفيمدينة غزة وضواحيها.
ويوجد تباين في أعداد الضحايا حيث قدرت بعض المصادر عدد القتلى من أهالي مدينة خانيونسوضواحيها ب 600 ومئات الجرحى([7])، وحسب احصائيات جامعة الدول العربية، بلغ عدد القتلىفي مجزرة مدينة غزة 256، و108 مفقودًا، 142 جريحاً([8]). وحسب احصائيات الأمم المتحدةفإن عدد القتلى في خانيونس قدر 275 وفي رفح غير معروف العدد([9]). وذكرت مصادر أُخرىبأن حصيلة مجزرة رفح قدرت بنحو200 وما يقارب 23 مفقودًا و156 مصاب([10]).
ومن الجدير بالذكر أن هذه المجازر لم تقتصرعلى المعتقلين من الفلسطينيين فقط بل تم إعدام أعداد كبيرة من الأسرى المصريين، وقدتم الاعتراف فيما بعد بمقتل 35 أسيرًا مصريًا خلال حرب السويس عام 1956، وقد ذكر التلفزيون“الإسرائيلي” نقلًا عن وثيقة عسكرية رسمية نشرتها صحيفة “دفار” أن كتيبة المظليين رقم890″الإسرائيلية” قتلت الأسرى المصريين بناءً على أوامر من رفائيل إيتان([11]) ومنالجدير ذكره أن أعداد المفقودين والأسرى المصريين في حرب عام 1956 يفوق ستة الآف جندي([12])ويؤكد الكثير ممن عاصروا الحدث، أن الجيش الإسرائيلي كان يقوم بالقتل الفردي والجماعي لأى جندي أو مدني مصري يجده فيقطاع غزة([13]).
وبعد الانسحاب من القطاع في السابع من مارس/آذار1957 بدأ الاهالي في البحث عن المفقودين من أبنائهم ومن الممكن تقسيم المفقودين إلىقسمين: فريق تم اعتقاله ولم يتم إعلام أهله بذلك ومنهم من تم قتله وإخفاء جثته في مقابرجماعية. و عدد كبير من الذين اعتبروا مفقودين بعد انسحاب إسرائيل “لم يعثر عليهم بينالأحياء، وتبع ذلك اكتشاف قبور جماعية، وجثث، وتوالت هذ الاكتشافات حتي 26 يونيو1957حيث بلغ عدد الجثث التي تم العثور عليها 230 جثة. وذكرت بعض الروايات أن الجيش أجبر عدد من المعتقلين على حفر خنادقبأيديهم لتكون مقابر لهم([14]).
وهناك مفقودون لم يستدل عليهم بين الأحياء ولا على جثامينهم بين الأموات ربما كانوا قيد الاعتقالفي السجون الإسرائيلية آنذاك، ويؤكد هذا القول ما جاء على لسان الكاتب الإسرائيلي روني شكيد، الذي قال، أن اليومالأسود في حياة إدارة مصلحة السجون هو 31 تموز/يوليو 1958 والمعروف بتمرد “شطة”، حيثأن عشرات من “الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجن “شطة” وعلى رأسهم الأسير المصري الصحافي“أحمد عثمان” والمتهم بقضية تجسس لصالح مصر قد قتلوا اثنين من السجانين الإسرائيليينوهربوا من السجن، واستطاع 66 أسيرًا منهم الهروب من السجن والوصول إلى الأردن، وقدقتل 11 أسيرًا وأصيب 13أسيرًا آخرًا،([15]). ومن الجدير بالذكر انه كان هناك عدة سجونفي إسرائيل للاسرى الفلسطينيين والعرب منها اجليل عتليت وشطة، وتولى مصلحة السجون فيذلك الوقت تسفي حرمون والذي اقيل علي خلفية هذا التمرد.
وأخيرًا يمكن القول أن هذه المجزرة لم تلقىالاهتمام الواجب في تاريخ النضال الفلسطيني ولم تتناقلها وسائل الاعلام كغيرها من المجازر والمذابح التي ارتكبتها قواتالاحتلال الاسرائيلي مثل كفر قاسم ودير ياسين بالرغم أنها أكثر عددًا وأكثر بشاعة منهما حيث استمرت عمليات القتل لأكثر من خمسةعشر يومًا متواصلة عمت مدينة خانيونس وضواحيها ومدينة رفح أيضًا ولم تسلم مدينة غزةمن هذه المذبحة كما سبق الذكر..
دكتور محمد عبد الجواد البطة
الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر
تعليقات الفيسبوك